رحمة النبي بالمهاجرين
من أروع مظاهر رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله مع المسلمين عند هجرتهم من مكة إلى المدينة.. فقد كانت أزمة كبيرة ترك فيها المسلمون ديارهم وتجارتهم وأموالهم وذكرياتهم.. تركوا كل ذلك، وفرُّوا إلى الله ورسوله، فكان لا بد من الوقوف إلى جوارهم في أزمتهم هذه..فضل الهجرة
فأول ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رفع من شأنهم وقدرهم، وأخبرهم أن هجرتهم هذه هجرة كريمة لا ينظر إليها بانتقاص، فهم ليسوا مجرد لاجئين إلى بلد آخر، بل هم مجاهدون عظماء، وذكر ذلك في أحاديث شتى، لعل من أعظمها أنه بَشَّرهم أنهم أول من يجوز الصراط يوم القيامة، وذلك عندما سُئِلَ عن أول الناس إجازة فقال: "فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ"[1].وفي موقف آخر قال : "إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا"[2].
وهكذا شعر المهاجرون بقيمتهم وفضلهم، وبالتالي رُفِعَت معنوياتهم..
صهيب الرومي
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يواسي المهاجرين ويهوِّن عليهم مصابهم، والذي أحيانًا يكون كبيرًا جدًا.. وما أروع استقباله لصهيب الرومي رضي الله عنه عندما هاجر إلى المدينة تاركًا ثروته كلها وراءه في مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشرًا: "رَبِحَ البَيْعُ أبَا يَحْيَى"[3].عبد الله بن جحش
ولمَّا جاء عبد الله بن جحش رضي الله عنه يشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان قد أخذ دَارَهُم في مكة بعد الهجرة وباعها، واساه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقَّة وقال له: "أَلا تَرضَى يَا عَبْدَ اللهِ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ بِهَا دَارًا خَيرًا مِنْهَا فِي الجنَّة؟" قال: بلى، قال: "فَذَلِكَ لَكَ"[4].انتشار المرض في المدينة
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائم الاطمئنان على المهاجرين في المدينة، والزيارة لهم، خاصة أنهم قدموا على مناخ جديد في المدينة فأصابتهم بعض الأمراض..تقول عائشة رضي الله عنها قدمنا المدينة وهي وبيئة، فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى أصحابه قال: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَحَوِّلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ[5]"[6].
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
ثم قام الرسول صلى الله عليه وسلم بعمل فريد ليس له مثيل في التاريخ وهو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فتحمَّل الأنصار عبء المهاجرين وكفلوهم في ديارهم، ووصل الأمر إلى التوارث بين الطائفتين إلى أن نُسِخَ حُكْمُ التوارث بعد ذلك[7]..ومع أن وضع الأنصار كان أفضل، وأزمة المهاجرين كانت أشد إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رحيمًا بالأنصار كذلك، فلم يشأ أن يُثقل عليهم حتى مع رغبتهم في التضحية..
قَالَتْ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ : اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: لا، فَقَال: "تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ، وَنُشْرِكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا"[8].
وهذه رحمة من النبي صلى الله عليه وسلم وحكمة، فقد تتغير الأحوال، وتتحسن أحوال المهاجرين، ويشعر الأنصار بشيء من الغبن، ولذلك كان هذا التصرف الراقي منه ..
بهذه الخطوات وبأمثالها خرج المهاجرون من أزمتهم، وخُفِّفت كذلك أزمة الأنصار، واجتازت المدينة عقبة كان من الممكن أن تودي باستقرارها وراحتها..
لقد كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم فريدًا حقًا..
وما كان ذلك أن يتم لولا رحمة هائلة وسعها في قلبه صلى الله عليه وسلم.
وصدق الذي قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وأخيرًا..
إن ما ذكرناه من صور لرحمة النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء من أبناء أمته ما هو إلا غيض من فيض، وقطرة في يَمٍّ، حاولنا فيها أن نذكر أمثلة مختلفة من صور شتى، وإن كنا -لا شك- بعيدين تمامًا عن الصورة الكاملة للحقيقة، ولعل ما ذكرناه يكون حافزًا لنا أن نتوسع في دراسة سيرته، وفي متابعة أحواله ففي ذلك الخير لنا ولمجتمعاتنا، بل وللعالم أجمع..
وصَلِّ اللهُمَّ وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم..