الخندق الذي حفر حول الحجرة الشريفة وأذيب فيه الرصاص
(وأما الخندق) الذي حفر حول الحجرة الشريفة وأذيب فيه الرصاص، فقد ذكر سببه جمع من مؤرخي المدينة المنورة وغيرهم كالشيخ مجد الدين والعلامة جمال الدين المطري والعلامة جمال الدين الإسنوي في تأليف له، وحاصل كلامهم (أن النصارى) قبحهم الله في سلطنة الملك العادل أحد المعدودين من الأولياء الأربعين السلطان نور الدين الشهيد، دعتهم أنفسهم إلى أمر عظيم، ظنوا أنه يتم لهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وذلك في سنة سبع وخمسين وخمسمائة، واتفقت آراؤهم على أن ينقلوا النبي صلى الله عليه وسلم من الحجرة الشريفة (فأرسلوا) رجلين منهم فدخلا المدينة المنورة، في زي المغاربة، وادعيا بأنهم من أهل الأندلس، فنـزلا في الناحية التي تلي قبلة الحجرة الشريفة من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتعرف اليوم بدار العشرة، وفي كلام الإسنوي: في رباط بقرب الحجرة الشريفة، وأظهرا الصلاح لأهل المدينة بالصلة والبـر، وزيارة القبر الشريف والبقيع، وصيام النهار وقيام الليل وغير ذلك، فحفرا سردابا ينتهي إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وصارا ينقلان التراب قليلا قليلا فتارة يجعلانه في بئر كان عندهم، وتارة يجعله كل واحد منهما في محفظة من جلد، ويخرج مظهرا زيارة البقيع فيلقيه بين القبور، وأقاما على ذلك مدة، وتوهما الوصول بذلك إلى الجناب الشريف، ويفعلان به ما زين لهم إبليس اللعين من النقلة وما يترتب عليها (وكان) السلطان المذكور له تهجد يأتي به بالليل، فنام عقب تهجده، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه، وهو يشير إلى رجلين أشقرين، ويقول: يا محمود أنقذني أو أنجدني من هذين، فاستيقظ فزعا ثم توضأ وصلى ونام، فرأى المنام بعينه هكذا ثلاث مرات، وهو يشير إليهما ويقول له: أنقذني، فلما استيقظ في الثالثة، قال: لم يبق نوم، ولم يملك أن دعا وزيره جمال الدين الموصلى المعدود من الثمانية، فأحضر، وحكى له ما اتفق له، فقال: هذا أمر حدث في المدينة، وما قعودك، اخرج الآن إلى المدينة النبوية، واكتم ما رأيت، فتجهز في بقية ليلته، وخرج على رواحل في عشرين نفرا، وصحبته الوزير المذكور، ومال كثير، وفي كلام مجد الدين: ومعه ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، والجمع ممكن، (فقدم المدينة ) في ستة عشر يوما، فاغتسل خارجها، ودخلها على حين غفلة من أهلها، وصلى في الروضة المطهرة، وزار، ثم جلس لا يدري ما يصنع، فقال الوزير: أتعرف الشخصين إذا رأيتهما، قال: نعم، فقال الوزير- وقد اجتمع الناس من أهل المدينة في المسجد-: إن السلطان قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه أموال للصدقة، فاكتبوا من عندكم، واحضروا، فحضروا، وكل من حضر ليأخذ، تأمله السلطان ليجد فيه الصفة، فلم يجدها في أحد منهم، فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ من الصدقة، قالوا: لا، قال: تفكروا وتأملوا، فتفكروا وقالوا: لم يبق إلا رجلان مغربيان لا يتناولان من أحد شيئا، وهما صالحان، فانشرح صدره لذلك، وقال: عليّ بهما، فأحضرا، فإذا هما الرجلان اللذان أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: من أين أنتما، قالا: من بلاد المغرب جئنا حاجين، فاخترنا المجاورة في هذا العام، فقال لهما: اصدقاني، فصمما على ذلك، فقال: أين منـزلكما، فأخبر أنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة، فأمسكهما، وحضر إلى منـزلهما، فرأى فيه مالا كثيرا، وختمتين، وكتبا في الرفوف، ولم ير شيئا خلاف ذلك، فأثنى عليهما أهل المدينة بخير كثير، وقالوا: إنهما صائمان الدهر، ملازمان الصلوات الخمس في الروضة الشريفة، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والبقيع الشريف في كل يوم، وزيارة قبا في كل سبت، ولا يردان سائلا قط، بحيث سدا احتياج كثير من أهل المدينة في هذا العام المجدب، فقال السلطان: سبحان الله، ولم يظهر شيئا مما رآه، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه، فرفع حصيرا في البيت، فرأى لوحا فرفعه، فرأى سردابا محفورا تحت الأرض من حائط المسجد القبلي، وهما قاصدان إلى ما تحت الحجرة الشريفة، فارتاعت الناس لذلك، فقال السلطان: اصدقاني حالكما، وضربهما ضربا شديدا، فاعترفا بأنهما نصرانيان، بعثهما ملوك النصارى في زي حجاج المغاربة، وأمالوهما بأموال عظيمة، وأمروهما بالتحيل في شيء عظيم، وهو إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من قبره الشريف، ونقله إلى بلادهم. وفي عبارة بعضهم: فلما قربا من الحجرة الشريفة ارتعدت السماء وأبرقت، وحصل رجف عظيم، بحيث خُـيّل اقتلاع تلك الجبال، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة، واتفق مسكهما، واعترفا، فلما ظهر حالهما على يديه، ورأى تأهيل الله له بذلك دون غيره، بكى بكاء شديدا، وأمر بضرب رقابهما، فقتلا عند الشباك الذي شرقي الحجرة الشريفة، ثم أحرقا بالنار آخر النهار. (قلت) ما تقدم عن الإسنوي من أنهما نزلا في رباط بقرب الحجرة الشريفة يحتمل أن يكون المراد به الرباط الذي شرقي المسجد عند باب جبريل المعروف برباط العجم وهذا هو المشهور عند أهل المدينة، والظاهر الأول، لأنه أقرب إلى حصول مقصودهم لقرب ذلك الموضع من القبر الشريف، وأما بين القبور وبين رباط العجم فبعد كثير... (ثم أمر ) نور الدين المذكور بإحضار رصاص كثير، وحفر خندقا عظيما إلى الماء، حول الحجرة الشريفة، وأذيب ذلك الرصاص فيه حتى ملأ به الخندق، فصار حول الحجرة سور من الرصاص، كذا نقله السمهودي في الخلاصة وذروة الوفاء، ولعل الرصاص جعل قطعا عظاما وملئ به الخندق المذكور، ولم يتعرض المطري لأمر الرصاص، والله أعلم. ثم عاد، وأمر بإضعاف النصارى، وأن لا يُستعمل كافر في عمل من الأعمال، وأمر مع ذلك بقطع المكوس جميعا. انتهى ملخصا من كلامهم.